عبد الرحمن بن عوف
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
عبد الرحمن بن عوف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا ، وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أصحاب النبي عليهم رضوان الله بمجموعهم يمثلون كل النماذج البشرية ، ففي كل مجتمع غنيٌّ وفقير ، قويٌّ وضعيف ، شابٌ وكهلٌ وشيخ ، صحيح ومريض ، ذو نسب عالٍ ، وذو ضآلة في النسب ، هذه الحظوظ التي وزَّعها الله يبن البشر موجودة في كل مجتمع ، لذلك يجب أن نعلم أن الإنسان إذا عرف الله واتصل به ، واصطبغ بصبغته ارتقى إلى مرتبة عالية ، فإذا كان غنيًّا اشتهيْتَ الغنى عليه ، وإذا كان فقيراً لا ترى الفقر ضيراً على مؤمن، وإذا كان صحيحاً جعل صحته في سبيل الله ، وإذا كان مريضاً رأيتَ فيه الصبر والسلوان، وإن كان وجيهاً استخدم وجاهته في الحق ، وإن كان خاملا استغنى برضاء الله عن الدنيا ؛ الذي أريد أن أؤكِّده لكم أنه بأيِّ حال أنت ؛ بأيِّ وضعٍ اجتماعيٍّ ؛ بأيَّة قوة ، بأيِّ ضعف؛ بأيِّ غنى ؛ بأيِّ فقرٍ ؛ بأيِّ وجاهة ، وبأيِّ خمول ؛ بأي وَسَامةٍ ، وبأيِّ دمامة ، فإذا عرفت الله عز وجل ، و طبَّقتَ منهجه ، واصطبغت بصبغته كنتَ إنساناً عظيما ، قد يظن الناس واهمين أن الغنى يتناقض مع الإيمان ؛ من قال ذلك ؟ يمكن أن تكون أغنى أغنياء الأرض ، وفي أعلى درجات الإيمان والقبول عند الله عز وجل ؛ يمكن أن تكون من أقوى الأقوياء وأنت مؤمن ، لماذا حدثنا ربنا عز وجل عن ذي القرنين ؟ كان ملكاً ، ولا يتنافى الملكُ مع الإيمان ، فقد تكون فقيراً وأنت عند الله عظيم ، قد تُغطَّى بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ألا يا رُبَّ نفسٍ جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة" .
الآن نحن مع صحابي كان من أغنى الصحابة ، سأُِريكم كيف يكون الغنى مـــع الإيمان ، مرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سُمِع في المدينة ضجيجٌ ، وتعالى غبارٌ في الأفق، فسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وقد ترامى إلى سمعها أن قافلة عظيمة زاحفة إلى المدينة : ما هذا الذي يحدث في المدينة ؟ فقالوا لها : يا أم المؤمنين ؛ إنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف ، جاءت من الشام تحمل تجارة له ، قالت أم المؤمنين : قافلة تحدث كل هذه الضجَّة ! قالوا : أجل يا أم المؤمنين ؛ إنها سبعمئة راحلة ، قافلة واحدة لهذا الصحابي الجليل ، فهزَّت أم المؤمنين رأسها وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا كأنها تبحث عن شيء ، عن ذكرى مرَّت بها ، أو عن حديث سمعته ، ثم قالت : أمَا إني سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : رأيتُ عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا ، يعني زحفاً ، عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا! ولماذا لا يدخلها وثباً وجرياً وركضاً وخبباً ، فإنّه من أصحاب رسول الله ، وإنه من السابقين السابقين ، من أصحاب رسول الله الذين شهدوا بدراً وأُحداً والخندق ، وهاجروا إلى الحبشة مرتين ، وكان هذا الصحابي في ترتيب المسلمين الثامن ؛ ثامن مسلم دخل الإسلام ، أسلم على يد سيدنا أبي بكر ، وهذا الصحابي الجليل من العشرة المبشرين بالجنة ، ويدخلها حبواً ! لكن سمعتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى ، إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحَى.
سيدنا عبد الرحمن بن عوف نقل إليه بعض الصحابة نقلاً ، مقالة عائشة رضي الله عنها ، فتذكَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أكثر من مرَّة ، وأكثر من صيغة ، وقبل أن تُفَضَّ مغاليق الأحمال حثَّ خطاه إلى بيت عائشة ، وقال لها : لقد ذكَّرتِني بحديث لم أنسه ، ثم قال : أما إني أُشهدكِ أن هذه القافلة كلها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله ، كلها ، سبعمئة شاحنة ، سبعمئة راحلة محمَّلة بالبضائع من الشام قدَّمها كُلَّها في سبيل الله ، قال : والله لأَدْخُلَنَّها خَبَباً ليس حَبْواً ، هذا هو عبد الرحمن بن عوْفٍ ، هذا هو الغنيُّ المؤمن ، هذا الذي يكون سيِّد المال ، وليسَ عبداً له ، هذا الذي يسْتخدم المال في سبيل الجنَّة ، في سبيل مرْضاة الله عز وجل ، في سبيل أنْ يفوز بِجَنَّةٍ عَرْضُها السماوات والأرض ، في سبيل أنْ يرْضى الله عنه ، هذا الصحابي الجليل هو أحدُ الثمانِيَّة الذين سبَقوا إلى الإسلام ، عرضَ عليه أبو بكر الإسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العَوام وطلْحة بن عُبَيد الله وسعْدُ بن أبي وقاص فمَا غُمَّ عليهم الأمر، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :" ما دَعَوْتُ أحداً إلى الإسْلام إلا كانت له كَبْوَة إلا أبا بكر " ، وقال سيِّدُنا ابن عوف أيضاً : حينما عرضَ عليه أبو بكر الإسلام هو وعُثمان بن عفان والزبير بن العَوام وطلْحة بن عُبَيد الله وسعْدُ بن أبي وقاص فما غُمَّ عليهم الأمر ، ولا أبْطؤوا ، بل سارَعوا مع الصِّديق إلى النبي عليه الصلاة والسلام يُبايِعونه ، ويحْمِلون لِواءَهُ ، فهذا الصحابي الجليل هو ثامِنُ رجلٍ دخل في الإسْلام ، ما دَعَوْتُ أحداً إلى الإسْلام إلا كانت له كَبْوَة ، فهُوَ لم تكُن له كَبْوة ، بل أقْبل بِكُلِّه ، وهو من العَشَرَة المُبَشِّرين بالجنَّة ، ففي التاريخ الإسْلامي عشَرَةُ أشخاص يدْخلون الجنَّة على التحْقيق ، وما سِواهُم على الرَّجاء ، نحن نرْجو الله ، وفرْقٌ كبير بين التحْقيق والرَّجاء ، وهو من أصْحاب الشورى السِّتَة الذين اخْتارهم سيّدُنا عمر من بعْده ؛ ومن بينِهِم سيّدنا عبد الرحمن بن عوفٍ ، وكان مَحْظوظاً في التِّجارة ، وكان يقول : لقد رأَيْتُني لو رفَعْتُ حجَراً لَوَجَدْتُ تحته فِضَّةً وذَهَباً ، كَيْفَما تحَرَّك ربِح ، لكنْ مرَّةً سألوه : بِما حَقَّقْتَ هذه الثرْوة يا عبد الرحمن ؟ قال : والله ما اسْتَقْللتُ رِبْحاً ، ولا بِعْتُ دَيْناً ، تِجارةُ الدَّيْن ليْسَتْ تِجارة ، بل هي ذلّ وتَسَوُّلٌ وفَقْرٌ وهَمٌّ ، هذا تَوْجيهُ صحابِيٍّ جليل آتاهُ الله مالاً، وكان له ثلاثة أطْوار ؛ فهُوَ إما في المسْجد ، وإما أنه في غَزْوٍ مع رسول الله ، وإما أنه في تِجارِتِه ، إما تَنْمِيَةُ التِّجارة ، أو أنه في المسجد يتعلَّمُ من النبي ، أو أنه في الغَزْو يُجاهدُ في سبيل الله .
إنّ الصحابة الكٍرام كانوا مٌثُلاً عُلْيا ، فلما هاجَروا إلى المدينة أمرهم النبي صلى الله عليه وسلّم أنْ يتآخَوا اثْنَيْن اثْنَين ، فسيّدنا بن عوفٍ كان نصيبُهُ سيّدنا سَعْد بن الربيع ، وهو أنْصاري ، وسيّدنا ابن عوف مُهاجِر ، ولما انْتَقَل إلى المدينة كانَ بِلا مالٍ ، تَصَوَّر أنَّ شَخْصاً ترك كلّ ثَرْوَته ثمّ يذْهب إلى مكانٍ آخر وهو مُفْلِس ، هكذا كان الصحابة ، تركوا كلّ أمْوالهم وهاجَروا مع النبي صلى الله عليه وسلّم ، فَسَيِّدُنا سَعْد بن الربيع قال له : يا أخي أنا أكثر أهل المدينة مالاً ، فانْظُر شَطْرَ مالي فَخُذْهُ ، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ : بارك الله لك في مالك ، ولكن دُلَّني على السوق ، هؤلاء الصحابة الكِرام الأنْصار الذين أظْهروا أعْلى درجات المُؤاثرة قابَلَهُم المُهاجِرون بِأَعلى درجات العِفَّة ، لذلك - وقد لا تُصَدِّقون - لم يُسَجِّل التاريخ أنَّ مُهاجِراً واحداً أخذ شطْر مال أخيه الأنْصاري ! هُم عرضوا ذلك ، وعبَّروا عن أعْلى درجات المُؤاثرة ، إلا أنَّ المُهاجِرين وقفوا بِأَعلى مواقف العِفَّة والتَجَمُّل ، قال له : بارك الله لك في مالك ، دُلَّني على السوق ، فاشْترى بِضاعَةً ورَبِح ، قال : اِحْتَجّ إلى الرجل تكُنْ أسيرَهُ ، واْستَغْنِ عنه تكُن نظيره ، وأحْسِن إليه تكُن أميرهُ .
وقدَّم يوماً رضي الله عنه لِجُيوش المسلمين خمسُ مئة فَرَسٍ ، ومرَّةً قدَّم ألفًا وخمسمئة راحِلَة في سبيل الله ، وعند مَوْتِهِ أوْصى بِخَمْسين ألف دينار في سبيل الله ، وأَوْصى لكل من بَقِيَ ممن شهِدوا بدْراً بِأَرْبَعمئة دينار ، حتى إنَّ عُثْمان بن عفان رضي الله عنه أخذ نصيبه من هذه الوَصِيَّة رغْمَ ثرائِهِ ، وقال : إنَّ مال عبد الرحمن حلالٌ صَفْوٌ ، وإنَّ الطُّعْمَةَ منه عافِيَةٌ وبَرَكَة ، فإذا دعاك المؤمن ، فوالله طعامه شِفاء ، قال : إنَّ مال عبد الرحمن حلالٌ صَفْوٌ ، وإنَّ الطُّعْمَةَ منه عافِيَةٌ وبَرَكَة ، فالمُلَخَّصُ أنَّهُ كان سيِّدَ ماله ، ولم يكن عَبْداً لِماله ، لذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ - الثياب - إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ *
[رواه البخاري]
قالوا : أهل المدينة جميعاً شُركاءُ لابن عوفٍ في ماله ، ثُلُثٌ يُقْرِضُهم ، وثُلُثٌ يقْضي عنهم دُيونهم ، وثُلُثٌ يصِلُهُم ويُعْطيهم ، فَثُلُثٌ يُكْرِمهم إكْراماً بلا مُقابل ، وثُلُثٌ يُدَيِّنُهم ، وثُلُثٌ يوفي عنهم الدَّين ، فأهل المدينة جميعاً شُركاءُ لابن عوفٍ في ماله ، ألا تشْتهون غِنى مثل هذا الصحابي الجليل؟!
سيِّدنا ابن عوف جيءَ له بِطعام الإفْطار ، وكان صائِماً ، فَلَما وقَعَتْ عَيْناهُ فَقَدَ شَهِيَّتَهُ ، وبكى ، لماذا يبْكي ؟ قال : اسْتُشْهِدَ مُصْعب بن عُمَيْر ، وهو خيرٌ مني ، فَكُفِّن في بُرْدَةٍ إنْ غُطِّيَ رأْسه بَدَتْ رِجْلاه ، وإنْ غطَّيتْ رِجْلاه بدا رأسه !! ، واسْتُشْهِدَ حمزة ، وهو خيرٌ مني فلم يوجد له ما يُكَفَّن فيه إلا بُرْدة ، ثمّ بُسِطَ لنا من الدنيا ما بُسِط ، وأُعْطينا منها ما أُعْطينا ، وإني لأخْشى أنْ تكون قد عُجِّلتْ لنا حَسَناتُنا ، واجْتمع بعض أصْحابه يوماً على طعامٍ عنده ، وما كاد الطعام يوضَعُ أمامهم حتى بكى ، فسألوه : ما يُبْكيك يا أبا محمد ؟! فقال : لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وما شَبِعَ هو وأهْلُ بَيْتِه من خُبْز الشعير ، وما أرانا أننا أُخِّرْنا لما هو خيرٌ منا ؛ القُدْوة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، كان إذا صلى قِيام الليل تحوِّل السيِّدة عائِشة رِجْلَيْها ، لأنَّ غرفته لا تَتَّسِعُ لِصَلاته ونوْمه ، ولما دخل عليه عديّ بن حاتم قذف إليه وِسادةً من أدم مَحْشُوَّةً ليفًا ، وقال له : اجْلِسْ عليها ، قُلْتُ بل أنت ! فقال: بل أنت ، فَجَلَسْتُ عليها وجلس صلى الله عليه وسلّم على الأرض ، ليس في بيْتِ النبي إلا وِسادةٌ واحدة !! ، هذه هي النبُوَّة ، لما دخل سيِّدنا عمر ورآهُ مُضْطجعاً على حصيرٍ وقد أثَّر في خَدِّه الشريف وبكى ، فقيل له : يا عُمَر ما يُبْكيك ؟ فقال : رسول الله ينام على الحصير ، ويُؤَثِّرُ في خَدِّه ! وكِسْرى وقَيْصَر ينامان على الحرير ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عُمَر إنما هي نُبُوَّة وليستْ مُلْكاً ، هل تراني ملِكاً ؟ أنا نبيّ وهذه هي النبوَّة ؛ النبوَّة قُدوة وتَقَشُّفٌ وزُهْدٌ .
بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام وتَسَلُّمَ أبو بكرٍ الخِلافة من بعده وبعد موت سيّدنا الصديق ، وقد أوْصى بالخِلافة لِسَيّدنا عمر ، وبعد سيّدنا عمر اخْتار سِتَّةً من أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، لِيَخْتار المُسلمون أحدَهم بعد وفاته ، وكان منهم عبد الرحمن بن عوفٍ ، والأصابعُ أشارتْ إليه ، على أنَّهُ أنْسَبُ إنْسانٍ ، فقال : والله لأنْ تؤْخَذَ مُدْيَةٌ فَتوضَعُ في حلْقي ، ثمّ يُنْفَذ بها إلى الجانب الآخر أحبّ إليّ من ذلك ؛ اِعْتذرَ ، وانْسحب ، فلما اعْتذر وانْسحب عَيَّنه الأصحاب الكرام أنْ يخْتار الذي يكون خليفةً بعد سيِّدنا عمر ، فاخْتار سيّدنا عثمان بن عفان ، فهو الذي اخْتار سيِّدنا عثمان لِيَكون خليفةً بعد سيّدنا عمر .
سيّدنا عمر قبل أنْ يتوفاه الله عز وجل مُتأثِّراً بِجِراحه اسْتأذن السيّدة عائِشة أمُّ المؤمنين أنْ يُدْفَن في حُجرة النبي عليه الصلاة والسلام ، ثمَّ اسْتدرك وقال : أنا خليفة المسلمين ، ولعلَّها قبلتْ خجَلاً مني ، بعد أنْ أموت اسْألوها مرَّةً ثانِيَة ، فإن قبِلتْ فافْعلوا ، فهُوَ رضي الله عنه ما أراد أنْ يسْتخدم سُلْطته في أخذِ مُوافقَتِها ، والسيّدة عائِشَة أرادَتْ أنْ تَخُصّ نفسها بِشَرف الدفْن في حُجْرة النبي ، فهذا الصحابي الجليل وهو على فِراش الموت أشارتْ إليه أنَّها تُوافقُ على أنْ يُدْفن في حُجْرَتها إلى جِوار النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكرٍ وعُمر ، ولكنه رضي الله عنه كان على حياءٍ كبير ، فقد اسْتَحْيا أن يكون مع هؤلاء الكِبار ، ثمّ إنه كان على مَوْعِدٍ وثيق مع عثمان بن مظغون ، إذْ تواثقا ذات يومٍ أَيُّهُما مات بعد الآخر يُدْفَنُ إلى جِوار صاحِبِه ، فهذا وعْدٌ ! ، أوَّلاً اسْتَحْيا أن يُدْفن مع سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم والصديق وعمر، إضافةً للوَعْد الذي وَعَدَهَ ، وهو على فِراش الموت قال : إني أخاف أنْ أُحْبَسَ عن أصْحابي لكثرة ما كان لي من مالٍ ، مع كُلّ هذا الإنفاق وهذا السَّبْق والحُبّ والمؤاثرة ، كان يقول : إني أخاف أنْ أُحْبس عن أصْحابي لِكَثْرة ما كان لي من مالٍ ، ولكن عندئذٍ ذكر قوْل النبي عليه الصلاة والسلام : "عبد الرحمن بن عوْفٍ في الجنَّة" ، هذه البِشارة طَمْأنَتْ قلْبه وجعَلَتْهُ قريرَ العَيْن وتلا قبل قولَه تعالى :
(( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ))
[ البقرة : الآية 262 ]
فليستْ العظمة عند الله أنْ تكون داعِيَةً فقط ، أصْحاب الأموال بِإنْفاقهم وسخائِهم وبذْلهـم يصِلون إلى مرْتَبَةٍ عالِيَةٍ عند الله عز وجلّ ، لأنَّ هؤلاء أنفقوا مالهم والمال شقيق الروح .
والحمد لله رب العالمين
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا ، وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أصحاب النبي عليهم رضوان الله بمجموعهم يمثلون كل النماذج البشرية ، ففي كل مجتمع غنيٌّ وفقير ، قويٌّ وضعيف ، شابٌ وكهلٌ وشيخ ، صحيح ومريض ، ذو نسب عالٍ ، وذو ضآلة في النسب ، هذه الحظوظ التي وزَّعها الله يبن البشر موجودة في كل مجتمع ، لذلك يجب أن نعلم أن الإنسان إذا عرف الله واتصل به ، واصطبغ بصبغته ارتقى إلى مرتبة عالية ، فإذا كان غنيًّا اشتهيْتَ الغنى عليه ، وإذا كان فقيراً لا ترى الفقر ضيراً على مؤمن، وإذا كان صحيحاً جعل صحته في سبيل الله ، وإذا كان مريضاً رأيتَ فيه الصبر والسلوان، وإن كان وجيهاً استخدم وجاهته في الحق ، وإن كان خاملا استغنى برضاء الله عن الدنيا ؛ الذي أريد أن أؤكِّده لكم أنه بأيِّ حال أنت ؛ بأيِّ وضعٍ اجتماعيٍّ ؛ بأيَّة قوة ، بأيِّ ضعف؛ بأيِّ غنى ؛ بأيِّ فقرٍ ؛ بأيِّ وجاهة ، وبأيِّ خمول ؛ بأي وَسَامةٍ ، وبأيِّ دمامة ، فإذا عرفت الله عز وجل ، و طبَّقتَ منهجه ، واصطبغت بصبغته كنتَ إنساناً عظيما ، قد يظن الناس واهمين أن الغنى يتناقض مع الإيمان ؛ من قال ذلك ؟ يمكن أن تكون أغنى أغنياء الأرض ، وفي أعلى درجات الإيمان والقبول عند الله عز وجل ؛ يمكن أن تكون من أقوى الأقوياء وأنت مؤمن ، لماذا حدثنا ربنا عز وجل عن ذي القرنين ؟ كان ملكاً ، ولا يتنافى الملكُ مع الإيمان ، فقد تكون فقيراً وأنت عند الله عظيم ، قد تُغطَّى بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ألا يا رُبَّ نفسٍ جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة" .
الآن نحن مع صحابي كان من أغنى الصحابة ، سأُِريكم كيف يكون الغنى مـــع الإيمان ، مرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سُمِع في المدينة ضجيجٌ ، وتعالى غبارٌ في الأفق، فسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وقد ترامى إلى سمعها أن قافلة عظيمة زاحفة إلى المدينة : ما هذا الذي يحدث في المدينة ؟ فقالوا لها : يا أم المؤمنين ؛ إنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف ، جاءت من الشام تحمل تجارة له ، قالت أم المؤمنين : قافلة تحدث كل هذه الضجَّة ! قالوا : أجل يا أم المؤمنين ؛ إنها سبعمئة راحلة ، قافلة واحدة لهذا الصحابي الجليل ، فهزَّت أم المؤمنين رأسها وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا كأنها تبحث عن شيء ، عن ذكرى مرَّت بها ، أو عن حديث سمعته ، ثم قالت : أمَا إني سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : رأيتُ عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا ، يعني زحفاً ، عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا! ولماذا لا يدخلها وثباً وجرياً وركضاً وخبباً ، فإنّه من أصحاب رسول الله ، وإنه من السابقين السابقين ، من أصحاب رسول الله الذين شهدوا بدراً وأُحداً والخندق ، وهاجروا إلى الحبشة مرتين ، وكان هذا الصحابي في ترتيب المسلمين الثامن ؛ ثامن مسلم دخل الإسلام ، أسلم على يد سيدنا أبي بكر ، وهذا الصحابي الجليل من العشرة المبشرين بالجنة ، ويدخلها حبواً ! لكن سمعتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى ، إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحَى.
سيدنا عبد الرحمن بن عوف نقل إليه بعض الصحابة نقلاً ، مقالة عائشة رضي الله عنها ، فتذكَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أكثر من مرَّة ، وأكثر من صيغة ، وقبل أن تُفَضَّ مغاليق الأحمال حثَّ خطاه إلى بيت عائشة ، وقال لها : لقد ذكَّرتِني بحديث لم أنسه ، ثم قال : أما إني أُشهدكِ أن هذه القافلة كلها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله ، كلها ، سبعمئة شاحنة ، سبعمئة راحلة محمَّلة بالبضائع من الشام قدَّمها كُلَّها في سبيل الله ، قال : والله لأَدْخُلَنَّها خَبَباً ليس حَبْواً ، هذا هو عبد الرحمن بن عوْفٍ ، هذا هو الغنيُّ المؤمن ، هذا الذي يكون سيِّد المال ، وليسَ عبداً له ، هذا الذي يسْتخدم المال في سبيل الجنَّة ، في سبيل مرْضاة الله عز وجل ، في سبيل أنْ يفوز بِجَنَّةٍ عَرْضُها السماوات والأرض ، في سبيل أنْ يرْضى الله عنه ، هذا الصحابي الجليل هو أحدُ الثمانِيَّة الذين سبَقوا إلى الإسلام ، عرضَ عليه أبو بكر الإسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العَوام وطلْحة بن عُبَيد الله وسعْدُ بن أبي وقاص فمَا غُمَّ عليهم الأمر، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :" ما دَعَوْتُ أحداً إلى الإسْلام إلا كانت له كَبْوَة إلا أبا بكر " ، وقال سيِّدُنا ابن عوف أيضاً : حينما عرضَ عليه أبو بكر الإسلام هو وعُثمان بن عفان والزبير بن العَوام وطلْحة بن عُبَيد الله وسعْدُ بن أبي وقاص فما غُمَّ عليهم الأمر ، ولا أبْطؤوا ، بل سارَعوا مع الصِّديق إلى النبي عليه الصلاة والسلام يُبايِعونه ، ويحْمِلون لِواءَهُ ، فهذا الصحابي الجليل هو ثامِنُ رجلٍ دخل في الإسْلام ، ما دَعَوْتُ أحداً إلى الإسْلام إلا كانت له كَبْوَة ، فهُوَ لم تكُن له كَبْوة ، بل أقْبل بِكُلِّه ، وهو من العَشَرَة المُبَشِّرين بالجنَّة ، ففي التاريخ الإسْلامي عشَرَةُ أشخاص يدْخلون الجنَّة على التحْقيق ، وما سِواهُم على الرَّجاء ، نحن نرْجو الله ، وفرْقٌ كبير بين التحْقيق والرَّجاء ، وهو من أصْحاب الشورى السِّتَة الذين اخْتارهم سيّدُنا عمر من بعْده ؛ ومن بينِهِم سيّدنا عبد الرحمن بن عوفٍ ، وكان مَحْظوظاً في التِّجارة ، وكان يقول : لقد رأَيْتُني لو رفَعْتُ حجَراً لَوَجَدْتُ تحته فِضَّةً وذَهَباً ، كَيْفَما تحَرَّك ربِح ، لكنْ مرَّةً سألوه : بِما حَقَّقْتَ هذه الثرْوة يا عبد الرحمن ؟ قال : والله ما اسْتَقْللتُ رِبْحاً ، ولا بِعْتُ دَيْناً ، تِجارةُ الدَّيْن ليْسَتْ تِجارة ، بل هي ذلّ وتَسَوُّلٌ وفَقْرٌ وهَمٌّ ، هذا تَوْجيهُ صحابِيٍّ جليل آتاهُ الله مالاً، وكان له ثلاثة أطْوار ؛ فهُوَ إما في المسْجد ، وإما أنه في غَزْوٍ مع رسول الله ، وإما أنه في تِجارِتِه ، إما تَنْمِيَةُ التِّجارة ، أو أنه في المسجد يتعلَّمُ من النبي ، أو أنه في الغَزْو يُجاهدُ في سبيل الله .
إنّ الصحابة الكٍرام كانوا مٌثُلاً عُلْيا ، فلما هاجَروا إلى المدينة أمرهم النبي صلى الله عليه وسلّم أنْ يتآخَوا اثْنَيْن اثْنَين ، فسيّدنا بن عوفٍ كان نصيبُهُ سيّدنا سَعْد بن الربيع ، وهو أنْصاري ، وسيّدنا ابن عوف مُهاجِر ، ولما انْتَقَل إلى المدينة كانَ بِلا مالٍ ، تَصَوَّر أنَّ شَخْصاً ترك كلّ ثَرْوَته ثمّ يذْهب إلى مكانٍ آخر وهو مُفْلِس ، هكذا كان الصحابة ، تركوا كلّ أمْوالهم وهاجَروا مع النبي صلى الله عليه وسلّم ، فَسَيِّدُنا سَعْد بن الربيع قال له : يا أخي أنا أكثر أهل المدينة مالاً ، فانْظُر شَطْرَ مالي فَخُذْهُ ، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ : بارك الله لك في مالك ، ولكن دُلَّني على السوق ، هؤلاء الصحابة الكِرام الأنْصار الذين أظْهروا أعْلى درجات المُؤاثرة قابَلَهُم المُهاجِرون بِأَعلى درجات العِفَّة ، لذلك - وقد لا تُصَدِّقون - لم يُسَجِّل التاريخ أنَّ مُهاجِراً واحداً أخذ شطْر مال أخيه الأنْصاري ! هُم عرضوا ذلك ، وعبَّروا عن أعْلى درجات المُؤاثرة ، إلا أنَّ المُهاجِرين وقفوا بِأَعلى مواقف العِفَّة والتَجَمُّل ، قال له : بارك الله لك في مالك ، دُلَّني على السوق ، فاشْترى بِضاعَةً ورَبِح ، قال : اِحْتَجّ إلى الرجل تكُنْ أسيرَهُ ، واْستَغْنِ عنه تكُن نظيره ، وأحْسِن إليه تكُن أميرهُ .
وقدَّم يوماً رضي الله عنه لِجُيوش المسلمين خمسُ مئة فَرَسٍ ، ومرَّةً قدَّم ألفًا وخمسمئة راحِلَة في سبيل الله ، وعند مَوْتِهِ أوْصى بِخَمْسين ألف دينار في سبيل الله ، وأَوْصى لكل من بَقِيَ ممن شهِدوا بدْراً بِأَرْبَعمئة دينار ، حتى إنَّ عُثْمان بن عفان رضي الله عنه أخذ نصيبه من هذه الوَصِيَّة رغْمَ ثرائِهِ ، وقال : إنَّ مال عبد الرحمن حلالٌ صَفْوٌ ، وإنَّ الطُّعْمَةَ منه عافِيَةٌ وبَرَكَة ، فإذا دعاك المؤمن ، فوالله طعامه شِفاء ، قال : إنَّ مال عبد الرحمن حلالٌ صَفْوٌ ، وإنَّ الطُّعْمَةَ منه عافِيَةٌ وبَرَكَة ، فالمُلَخَّصُ أنَّهُ كان سيِّدَ ماله ، ولم يكن عَبْداً لِماله ، لذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ - الثياب - إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ *
[رواه البخاري]
قالوا : أهل المدينة جميعاً شُركاءُ لابن عوفٍ في ماله ، ثُلُثٌ يُقْرِضُهم ، وثُلُثٌ يقْضي عنهم دُيونهم ، وثُلُثٌ يصِلُهُم ويُعْطيهم ، فَثُلُثٌ يُكْرِمهم إكْراماً بلا مُقابل ، وثُلُثٌ يُدَيِّنُهم ، وثُلُثٌ يوفي عنهم الدَّين ، فأهل المدينة جميعاً شُركاءُ لابن عوفٍ في ماله ، ألا تشْتهون غِنى مثل هذا الصحابي الجليل؟!
سيِّدنا ابن عوف جيءَ له بِطعام الإفْطار ، وكان صائِماً ، فَلَما وقَعَتْ عَيْناهُ فَقَدَ شَهِيَّتَهُ ، وبكى ، لماذا يبْكي ؟ قال : اسْتُشْهِدَ مُصْعب بن عُمَيْر ، وهو خيرٌ مني ، فَكُفِّن في بُرْدَةٍ إنْ غُطِّيَ رأْسه بَدَتْ رِجْلاه ، وإنْ غطَّيتْ رِجْلاه بدا رأسه !! ، واسْتُشْهِدَ حمزة ، وهو خيرٌ مني فلم يوجد له ما يُكَفَّن فيه إلا بُرْدة ، ثمّ بُسِطَ لنا من الدنيا ما بُسِط ، وأُعْطينا منها ما أُعْطينا ، وإني لأخْشى أنْ تكون قد عُجِّلتْ لنا حَسَناتُنا ، واجْتمع بعض أصْحابه يوماً على طعامٍ عنده ، وما كاد الطعام يوضَعُ أمامهم حتى بكى ، فسألوه : ما يُبْكيك يا أبا محمد ؟! فقال : لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وما شَبِعَ هو وأهْلُ بَيْتِه من خُبْز الشعير ، وما أرانا أننا أُخِّرْنا لما هو خيرٌ منا ؛ القُدْوة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، كان إذا صلى قِيام الليل تحوِّل السيِّدة عائِشة رِجْلَيْها ، لأنَّ غرفته لا تَتَّسِعُ لِصَلاته ونوْمه ، ولما دخل عليه عديّ بن حاتم قذف إليه وِسادةً من أدم مَحْشُوَّةً ليفًا ، وقال له : اجْلِسْ عليها ، قُلْتُ بل أنت ! فقال: بل أنت ، فَجَلَسْتُ عليها وجلس صلى الله عليه وسلّم على الأرض ، ليس في بيْتِ النبي إلا وِسادةٌ واحدة !! ، هذه هي النبُوَّة ، لما دخل سيِّدنا عمر ورآهُ مُضْطجعاً على حصيرٍ وقد أثَّر في خَدِّه الشريف وبكى ، فقيل له : يا عُمَر ما يُبْكيك ؟ فقال : رسول الله ينام على الحصير ، ويُؤَثِّرُ في خَدِّه ! وكِسْرى وقَيْصَر ينامان على الحرير ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عُمَر إنما هي نُبُوَّة وليستْ مُلْكاً ، هل تراني ملِكاً ؟ أنا نبيّ وهذه هي النبوَّة ؛ النبوَّة قُدوة وتَقَشُّفٌ وزُهْدٌ .
بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام وتَسَلُّمَ أبو بكرٍ الخِلافة من بعده وبعد موت سيّدنا الصديق ، وقد أوْصى بالخِلافة لِسَيّدنا عمر ، وبعد سيّدنا عمر اخْتار سِتَّةً من أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، لِيَخْتار المُسلمون أحدَهم بعد وفاته ، وكان منهم عبد الرحمن بن عوفٍ ، والأصابعُ أشارتْ إليه ، على أنَّهُ أنْسَبُ إنْسانٍ ، فقال : والله لأنْ تؤْخَذَ مُدْيَةٌ فَتوضَعُ في حلْقي ، ثمّ يُنْفَذ بها إلى الجانب الآخر أحبّ إليّ من ذلك ؛ اِعْتذرَ ، وانْسحب ، فلما اعْتذر وانْسحب عَيَّنه الأصحاب الكرام أنْ يخْتار الذي يكون خليفةً بعد سيِّدنا عمر ، فاخْتار سيّدنا عثمان بن عفان ، فهو الذي اخْتار سيِّدنا عثمان لِيَكون خليفةً بعد سيّدنا عمر .
سيّدنا عمر قبل أنْ يتوفاه الله عز وجل مُتأثِّراً بِجِراحه اسْتأذن السيّدة عائِشة أمُّ المؤمنين أنْ يُدْفَن في حُجرة النبي عليه الصلاة والسلام ، ثمَّ اسْتدرك وقال : أنا خليفة المسلمين ، ولعلَّها قبلتْ خجَلاً مني ، بعد أنْ أموت اسْألوها مرَّةً ثانِيَة ، فإن قبِلتْ فافْعلوا ، فهُوَ رضي الله عنه ما أراد أنْ يسْتخدم سُلْطته في أخذِ مُوافقَتِها ، والسيّدة عائِشَة أرادَتْ أنْ تَخُصّ نفسها بِشَرف الدفْن في حُجْرة النبي ، فهذا الصحابي الجليل وهو على فِراش الموت أشارتْ إليه أنَّها تُوافقُ على أنْ يُدْفن في حُجْرَتها إلى جِوار النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكرٍ وعُمر ، ولكنه رضي الله عنه كان على حياءٍ كبير ، فقد اسْتَحْيا أن يكون مع هؤلاء الكِبار ، ثمّ إنه كان على مَوْعِدٍ وثيق مع عثمان بن مظغون ، إذْ تواثقا ذات يومٍ أَيُّهُما مات بعد الآخر يُدْفَنُ إلى جِوار صاحِبِه ، فهذا وعْدٌ ! ، أوَّلاً اسْتَحْيا أن يُدْفن مع سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم والصديق وعمر، إضافةً للوَعْد الذي وَعَدَهَ ، وهو على فِراش الموت قال : إني أخاف أنْ أُحْبَسَ عن أصْحابي لكثرة ما كان لي من مالٍ ، مع كُلّ هذا الإنفاق وهذا السَّبْق والحُبّ والمؤاثرة ، كان يقول : إني أخاف أنْ أُحْبس عن أصْحابي لِكَثْرة ما كان لي من مالٍ ، ولكن عندئذٍ ذكر قوْل النبي عليه الصلاة والسلام : "عبد الرحمن بن عوْفٍ في الجنَّة" ، هذه البِشارة طَمْأنَتْ قلْبه وجعَلَتْهُ قريرَ العَيْن وتلا قبل قولَه تعالى :
(( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ))
[ البقرة : الآية 262 ]
فليستْ العظمة عند الله أنْ تكون داعِيَةً فقط ، أصْحاب الأموال بِإنْفاقهم وسخائِهم وبذْلهـم يصِلون إلى مرْتَبَةٍ عالِيَةٍ عند الله عز وجلّ ، لأنَّ هؤلاء أنفقوا مالهم والمال شقيق الروح .
والحمد لله رب العالمين
رد: عبد الرحمن بن عوف
شيخ المحجزة
اابن الغدو- ,
- عدد المساهمات : 847
تاريخ التسجيل : 12/09/2009
الموقع : بعيد كل البعد
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى