النفاق السياسي

يقولون: الحاجة أم الاختراع، ويقولون: الجوع قائد التفكير وملهم الإبداع، ويقولون: الفقر كافر.. إذن لا جديد في الموضوع، وكل ما في الأمر أن ظاهرة النفاق السياسي التي برزت على المسرح منذ عصور سحيقة، فرضتها الظروف المعيشية الصعبة، والأحلام والطموحات التي يستحيل تحقيقها من خلال أبسط الوسائل، أو بمعنى أصح، من خلال الوسائل المشروعة، فكان النفاق السياسي هو أقصر الطرق إلى نيل رضا الحاكم، وتحقيق ما تشتهيه النفس، ويرتاح له البال، وكل ما يؤمن مستقبل الفرد ضد تقلبات الأيام.

وتعود البدايات الأولى لظاهرة النفاق السياسي إلى عصور ما قبل التاريخ؛ منذ أن بدأ الإنسان يطلق لعقله عنان التفكير، وظهرت المدن والدويلات والحكومات على الطريقة البدائية. وظلت هذه الظاهرة مزدهرة عبر حقب التاريخ المختلفة، والحضارات القديمة، كالبابلية والسومرية والفرعونية والفارسية والرومانية والإغريقية والسبئية والحميرية وغيرها.. وحتى في عصر الحضارة الإسلامية. بل يمكن القول أن بروزها في هذه الحقبة وصل إلى درجة غير متوقعة، وهي تأليه الحاكم وجعله في مصاف الخالق الواحد الأحد، وأبرز دليل على ذلك، القصيدة الشركية التي كتبها الشاعر ابن هانئ الأندلسي ويمتدح فيها الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، والتي يقول في مطلعها:

ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ

فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ

و كأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ

وكأنّما أنصاركَ الأنصارُ

أنتَ الذي كانتْ تُبشِّرنَا بهِ

في كُتْبِها الأحبارُ والأخبارُ

والملاحظ أن ظاهرة النفاق السياسي اتخذت أشكالا ووسائل متعددة، وتطورت ونمت مع مرور الزمان، وكان أكثر من أبدع فيها هم العرب أكثر من العجم.. ففي القديم، كان هناك الحُجَّاب والوزراء وحملة المباخر، الذين يزينون للحاكم أفعاله، ويرددون أقواله، ويؤكدون على أنها كلها حكم وأمثال، لا ينطق بها إلا رجل حكيم. وفي العصر الإسلامي، وقبله بزمن قصير، اشتهر الكثير من الشعراء بالنفاق السياسي، والمتمثل بقصائد المدح والإشادة بالزعيم، كما في قصيدة ابن هانئ الأندلسي. وكان الشعراء يتسابقون على مجالس الخلفاء والأمراء، ويطرونهم بقصائد المدح التي يخجلون منها حتى هم أنفسهم، والمعلوم أن تلك القصائد ليست حبا في الزعيم، كما أن ما يرد فيها مجاف للحقيقة، إلا أنها تأتي حبا في أعطيات ومنح الزعيم أو الخليفة، وهداياه، ومحبة القرب منه. وازدهرت هذه الظاهرة في العصرين الأموي والعباسي، لدرجة أنه كان كلما قيل لخليفة ما، إن شاعرا خارج الباب يستأذن في الدخول، فيعرف الخليفة على الفور أنه جاءه بقصيدة مدح وإطراء طمعا في عطاياه وهداياه، وكان بعضهم يأمر حجابه وخدامه بإسكاته، أي بإعطائه مبلغ من المال أو هدية ما، وإرجاعه من الباب وعدم السماح له بالدخول على الخليفة.

وفي عصرنا الحاضر، استطاعت ظاهرة النفاق السياسي مجاراة التطورات التي أحدثتها الثورة الصناعية والتكنولوجية وثورة الإعلام، مع الاحتفاظ بأصالتها التي كانت عليها من قبل. ولم يعد اليوم النفاق السياسي مقتصرا على الحُجَّاب والخدام والشعراء وملمعي الأحذية، بل فقد انضم إلى هذه الشريحة الواسعة شرائح أخرى، من بينها أكاديميين وأساتذة جامعات وصحفيين وعلماء دين، وأناس كان من يعرفهم يراهم يرتدون ثياب التصوف والتقى والورع، وفجأة انضموا إلى هذه الفئة التي تمتهن النفاق السياسي كوسيلة لتحقيق ما تصبو إليه من تطلعات، ولعل أبرزها الحصول على المناصب، والمكافآت، والرواتب الشهرية، والاعتمادات السنوية، وتوظيف الأقارب..الخ.

كما أن ظاهرة النفاق السياسي في العصر الحاضر، نرى أنها تزدهر في الدول الفقيرة والمتخلفة والفاشلة –مثل بلادنا والعياذ بالله-، خاصة وأن حرية الرأي والتعبير ووسائل الإعلام بمختلف مسمياتها منحتها فرصا ثمينة للبروز والتطور، ولم تعد مقتصرة على قصائد المديح والإطراء، والتزيين للحاكم أفعاله، والإشادة بأقواله الحكيمة، بل اتسع مجالها، فهناك النثر الأدبي، أو المقال الصحفي، وهناك التصريحات لوسائل الإعلام، وهناك الهجوم على المعارضين للحاكم، وشتمهم وتعنيفهم، ووصفهم بأقذع الأوصاف.. بالإضافة إلى تخوينهم وتكفيرهم واتهامهم بلبس النظارات السوداء، والتآمر على الوطن، وهكذا دواليك.

وأكثر ما ساعد على بروز هذه الظاهرة في البلدان الفقيرة والمتخلفة والفاشلة -بسبب حكامها طبعا-، هو أن الوظيفة العامة لم تعد تخضع لمعايير الكفاءة والنزاهة ومراقبة الضمير والخوف من الله، وإنما تخضع لمعايير التطبيل للحاكم، والإشادة بأقواله وأفعاله، والهجوم ضد معارضيه، بغض النظر إن كان ذلك الهجوم أو النقد بناءً أو مجافيا للحقيقة، فالمهم هو مهاجمة المعارضة، وتخوينها وتكفيرها، مادام وأن ذلك سيتخطى معايير الكفاءة والنزاهة.. وهو ميدان سهل، لمن يريد الحصول على رضا الحاكم ومنحه وعطاياه، والحصول على وظيفة مرموقة، وربما يكمل الحاكم معروفه إلى آخره، فيضيف إلى ذلك سيارة وبيت أو قطعة أرض!

والمتأمل اليوم في وسائل الإعلام العربية الرسمية، من صحف ومجلات وإذاعات وفضائيات، يجد النفاق السياسي في أبهى صوره وأجلاها. والمؤسف هو أن يتحول صناديد في الفكر والثقافة والعلوم المختلفة إلى أدوات بيد الحكام، وعلماء دين ومشائخ قبائل وشخصيات اجتماعية تحظى بالشعبية في أوساط مجتمعاتها، يزينون للحاكم كل أقواله وأفعاله وآرائه، بل إن هناك من يبالغ في ذلك. فهذا يقول إن المستقبل سيكون أفضل في حال التوريث، وهذا يقول إن المظاهرات السلمية تخريب يجب على الحكام وأدها بمختلف الوسائل، وذاك يقول إن منافسة الحاكم في الانتخابات لا تجوز شرعا، وآخر يفتري قائلا أن المعارضة هي من قتلت مرشحها، وآخر يؤكد أن المعارضة إذا وصلت إلى الحكم ستخرب البلاد وسيهلك العباد، وكأن الحاصل في البلاد ليس هلاكا ولا خرابا.. والأفظع من هذا كله، أن المناصب والأعطيات تمنح لهؤلاء فور إطلاق تصريحاتهم وتهمهم، ولا يتورع الحاكم أن يكون هناك فاصل زمني –أو حتى فاصل إعلاني- بين التصريح ومنح الوظيفة، بمعنى أن المسألة مكشوفة على المفتوح، و"إذا لم تستح فاصنع ما شئت".

وهذه دعوة لكل من ضاقت أحواله المعيشة، وتردى وضع أسرته، وأظلمت أمامه الدنيا، وطمع في تحسين وضعه بين ليلة وضحاها، ما عليه إلا أن يمتشق قلمه، أو سهام لسانه، ويشرق ويغرب بالتصريحات والمقالات المليئة بالنفاق السياسي، والتطبيل الحاكم، وتلميع حذائه، والهجوم المقزز ضد معارضيه، وسيجد نفسه فجأة وقد (ركل الفقر والدبور!) وحلت عليه بركات الحاكم، فالأمر بسيط، بل أبسط مما نتوقع؛ لأن المال السايب يعلم الناس (النفاق السياسي)!!.

الف شكر شيخ المحجزة علا الموضوع

من طرف **اابن الغدو** الخميس سبتمبر 30, 2010 8:59 am

لاتعليق

موضوع وافي من شخص وافي

يشخ المحجزة

تسلم يمناك على الطرح

والله يعطيك العافية

فائق احترامي

اخو صالح

النفاق السياسي

النفاق السياسي

رد: النفاق السياسي

رد: النفاق السياسي